الموسيقى
لغة عالمية واحدة تتكون
من الحروف نفسها، لكنها
تتعدد بتعدد الشعوب التي
تستخدمها، ويتغير لونها
ومذاقها من شعب لآخر؛
حتى لتظنها لغات كثيرة،
لا لغة واحدة.. ومن أهم الأسباب
التي تؤدي إلى هذا الاختلاف
طبيعة الشعوب، والآلات
التي تستخدمها في موسيقاها،
والقوالب الفنية التي
تصب فيها هذه الموسيقى.
والموسيقى من أقدم
الفنون التي عرفها الإنسان
وتطورت عبر السنين لتصبح
عنصراً أساسياً في حياة
البشر، ففي الحضارة الفرعونية
القديمة ظهرت النقوش
التي تحمل أسماء العازفين
والمنشدين والرسامين
على جدران المعابد والمدافن،
وكانت في الغالب لموسيقي
و فناني القصر الذين لهم
أعمال فنية متميزة، كما مارست
الموسيقى دوراً سياسياً
واجتماعياً منذ آلاف
السنين، فقد اعتبر "كونفوشيوس"
منذ القرن السادس قبل
الميلاد أنه لابد من استخدام
الموسيقى في التعليم،
وأصر على أن تعاليمه الصارمة
بشأن الاعتدال يجب أن
تطبق على الموسيقى، كما
رأى أن الموسيقى المستحبة
هي تلك التي تعلم الناس،
تنظم المجتمع وتقوي الحكومة.
تعريف
الموسيقى، وماهيتها :
إن
كلمة موسيقى ليست كلمة
عربية أصلا، بل هي كلمة
لاتينية، وتعني بالعربية
الصوت
الخاص ، وهو بمثابة ترجمة
لرؤية معرفية خاصة بكل
شعب، أو بكل حضارة، في
شكل طبقات صوتية ومدد
إيقاعية متفاوتة، وتعني
الموسيقى عند العرب الصوت
الخارج من آلات العزف،
ولكي نتصور الموسيقى
لابد أن نعرف العزف والمعازف
في لغة العرب؛ قال ابن منظور : " عَزَفَ يَعْزِفُ
عَزْفاً: لها. و الـمَعازِفُ:
الـمَلاهِي، واحدها مِعْزَف
و مِعْزَفة. و عَزف
الرجل يَعزِفُ إِذا أَقام
فـي الأَكل والشرب، وقـيل:
واحد الـمعازِف
عَزْفٌ علـى
غير قـياس، ونظيره ملامـحُ
ومَشابِهُ فـي جمع شَبه
ولـمْـحَة، والـمَلاعبُ
التـي يُضْرب بها، يقولون
للواحد عَزْف، والـجمع معازِفُ
رواية عن العرب، فإِذا
أُفرد الـمِعْزَفُ، فهو
ضَرْب من الطَّنابـير
ويتـخذه أَهل الـيمن
وغيرُهم، يجعل العُود
مِعْزفاً. و عَزْفُ الدُّفِّ: صوتُه.
"().
الموسيقى في النص
الشرعي :
أولا : الموسيقى في
القرآن الكريم :
لفظة
الموسيقى غير عربية،
وبديهي أن لا
ترد في القرآن، ولكن حتى
المعنى العربي لها وهو
صوت المعازف، لم يرد في
القرآن، بل إن الآلات نفسها
والمعازف، لم ترد في القرآن
صريحة قط، والسلف يسمون
آلات العزف والمعازف
آلات لهو، وكذلك صوت المعازف،
والذي ورد آيات فهم منها
بعض السلف وأئمة التفسير
أنها تتكلم عن المعازف
وصوتها، ومن أمثلة هذه
الآيات قوله تعالى : ] وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم
بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ
فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ
إِلاَّ غُرُوراً [()، اختلف
أهل التأويل في الصوت
الذي عناه ـ جل ثناؤه ـ
بقوله : ] وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم
بِصَوْتِكَ [ فقال بعضهم : عنى
الغناء واللعب، وعن مجاهد
في قوله : ] وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم
بِصَوْتِكَ [ قال : باللهو والغناء
"().
ثانيا : الموسيقى
في السنة المشرفة :
الموسيقى
في السنة وردت في بعض أفرادها
كالدف، والمزمار، وكذلك
وردت بكلمة المعازف،
ومن الأحاديث التي أثبتت
الدف مثلا حديث عائشة
ـ رضي الله عنها ـ قالت
: " كان في حجري جارية من الأنصار،
فزوجتها، قالت : فدخل علي
رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم عرسها، فلم يسمع
غناء، ولا لعبا، فقال
يا عائشة : " هل غنيتم عليها،
أو لا تغنون عليها؟" ، ثم قال : " إن هذا
الحي من الأنصار يحبون
الغناء "()،
وكذلك حديث عن الربيع
بنت معوذ، قالت
: دخل علي النبي صلى
الله عليه وسلم، غداة
بُني علي، والحاصل
على فراشي كمجلسك مني،
وجويريات يضربن بالدف
يندبن من قتل من آبائهن
يوم بدر، حتى قالت جارية
: وفينا نبي يعلم ما في غد
؟ فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : " لا تقولي
هكذا وقولي ما كنت تقولين
"().
وحديث عبد
الله بن بريدة عن أبيه
قال : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض مغازيه،
فجاءت جارية
سوداء، فقالت يا رسول
الله : إني نذرت إن ردك الله
سالما أن أضرب
على رأسك بالدف. فقال رسول
الله صلى الله
عليه وسلم : " إن
نذرت فافعلي، وإلا فلا ". قالت : إني كنت
نذرت، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فضربت بالدف ().
وأما الأحاديث
التي أشارت إلى المعازف
عموما بغير تخصيص الدف،
فعن سهل بن سعد
أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم
قال : " سيكون في آخر الزمان
خسف وقذف ومسخ" ، قيل
: ومتى ذلك يا رسول الله
؟ قال : " إذا ظهرت المعازف،
والقينات، واستحلت الخمر
"().
وكذلك حديث عبد الرحمن
عن أبي أمامة قال : قال رسول
الله صلى الله
عليه : " إن الله بعثتي رحمة
للعالمين، وهدى للعالمين،
وأمرني ربي ـ عز وجل ـ بمحق المعازف، والمزامير،
والأوثان، والصلب، وأمر
الجاهلية "().
الموسيقى
في المذاهب الفقهية :
ومن خلال
ما ذكرنا من نصوص ذكرت
في القرآن والسنة، فكان
من تمام الفائدة، معرفة
فهم الأئمة الأعلام الذين
دونوا الفقه ، لهذه النصوص،
مما يجلي مسألة حكم الإسلام
في الموسيقى ، أي آلات
العزف واللهو.
وفي الحقيقة
لن تخرج آراء المذاهب
الأربعة عن رؤية واحدة،
وهي أن أغلب الأصوات التي
تنتجها آلات العزف واللهو
لا تجوز، وكانت دائرة
الإباحة ضيقة جدا.
الموسيقى
في مذهب الأحناف :
الأحناف
قسموا آلات اللهو قسمين
: قسم يباح ، وقسم يحرم،
وإن كان القسم المحرم
هو أغلب المعازف فقد نقل
ذلك الإمام محمد بن بكر
الحنفي حيث قال : " الملاهي
نوعان : محرم، وهو الآلات
المطربة الغناء، كالمزمار،
سواء كان من عود، أو قصب،
كالشبابة، أو غيره، كالعود،
والطنبور؛ لما روى أبو أمامة
: أنه عليه الصلاة والسلام
قال : " إن الله بعثني
رحمة للعالمين وأمرني
بمحق المعازف والمزامير
"()؛ لأنه مطرب مصد
عن ذكر الله تعالى.
والنوع
الثاني : مباح، وهو الدف
في النكاح، وفي معناه
ما كان من حادث سرور، ويكره
في غيره؛ لما روي عن عمر
رضي الله عنه : أنه لما كان
يسمع الدف، بعث فنظر،
فإن كان فيه وليمة سكت،
وإن كان في غيره عمده بالدرة
، وهو مكروه للرجال على
كل حال للتشبه بالنساء، ونقله في "فتح القدير"، ولم
يتعقبه، ونقل في"البزازية" في المناقب
الإجماع على حرمة الغناء
إذا كان على آلة، كالعود
وأما إذا كان بغيرها فقد
علمت الاختلاف "().
نخلص مما سبق أن الأحناف
يحرمون جميع آلات اللهو
والعزف عدا الدف، ولعلهم
يوافقون بذلك أغلب المذاهب.
الموسيقى
في مذهب المالكية :
سوف نجد أن
المالكية وافقوا الأحناف
تقريبا في مذهبهم، حيث
حكموا على أغلب آلات اللهو
والمعازف بالحرمة، وهذا
ما نقل عنهم في معتمد فقههم حيث
قال أبو الحسن المالكي
: " لا يحل لك سماع شيء من
آلات الملاهي كالعود
إلا الدف في النكاح"().
كما قال الدسوقي في "حاشيته" : " غوان، جمع غانية، بمعنى
مغنية، أي إذا كان غناؤها
يثير شهوة، أو كان بكلام
قبيح، أو كان بآلة، لأن
سماع الغناء إنما
يحرم إذا وجد واحدا من
هذه الأمور الثلاثة،
وإلا كان مكروها فقط إن
كان من النساء لا من الرجال
"().
وقد ذكر عبد الرحمن المغربي،
جواز البوق في الأعراس
حيث قال : " ولابن كنانة في
المدونة إجازة البوق
في العرس، فقيل معنى ذلك
في البوقات والزمارات
التي لا تلهي كل الإلهاء،
والله أعلم.
واختلف في جواز ما أجيز
من ذلك، فقيل هو من قبيل
الجائز الذي يستوي فعله
وتركه، في أنه لا حرج في
فعله ولا ثواب في تركه
وهو المشهور في المذهب،
وقيل : إنه من قبيل الجائز
الذي تركه أحسن من فعله،
فيكره فعله لما في تركه، من الثواب،
إلا أن في فعله حرجا أو
عقابا، وهو قول مالك في
"المدونة" : أنه
كره الدفاف والمعازف
في العرس وغيره "().
ونخلص من هذا
أن المالكية يرون حرمة
أغلب المعازف عدا الدف،
وفي البوق ترددوا بين
الكراهة، والحرمة. فكأنهم
وافقوا مذهب الأحناف.
الموسيقى
في مذهب الشافعية :
قسم الشافعية
المعازف إلى قسمين : قسم
يباح ، وقسم يحرم ، وهم
تقريبا على ما ذهب إليه
الأحناف والمالكية أيضا، فقد ذكر
الإمام أبو إسحاق الشيرازي
هذا فقال : " فصل : ويحرم استعمال
الآلات التي تطرب غناء،
كالعود والطنبور والمعزفة
والطبل والمزمار، والدليل
عليه قوله تعالى: ] وَمِنَ النَّاسِ
مَن يَشْتَرِي لَهْوَ
الحَدِيثِ لِيُضِلَّ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ
[() ، قال ابن عباس : إنها
الملاهي. وروى عبد الله
بن عمرو بن العاص : أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : " إن الله حرم
على أمتي الخمر والميسر
والمزر() والكوبة والقنين
"؛ فالكوبة
: الطبل، والقنين
: البربط().
وروى
عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : " تمسخ أمة
من أمتي؛ بشربهم الخمر
وضربهم بالكوبة والمعازف
" ؛ ولأنها تطرب، وتدعو
إلى الصد عن ذكر الله تعالى،
وعن الصلاة، وإلى إتلاف
المال فحرم كالخمر.
ويجوز
ضرب الدف في العرس والختان،
دون غيرهما، لما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال : " أعلنوا النكاح
واضربوا عليه بالدف " ،
ويكره القضيب الذي يزيد
الغناء طربا ولا يطرب
إذا انفرد؛ لأنه تابع
للغناء فكان حكمه حكم
الغناء ().
كما ذكر
ذلك أيضا السيد البكري
الدمياطي حيث قال : " بخلاف
الصوت الحاصل من
آلات اللهو والطرب المحرمة،
كالوتر فهو حرام يجب كف
النفس من سماعه " ().
وكذلك
الخطيب الشربيني حيث
قال : " ويحرم استعمال، أو
اتخاذ آلة من شعار الشربة،
جمع شارب، وهم القوم المجتمعون
على الشراب الحرام، واستعمال
الآلة، هو الضرب بها،
كطنبور بضم الطاء، ويقال
الطنبار، وعود وصنج،
وهو كما قال الجوهري : يضرب بعضها على بعض،
وتسمى الصفاقتين، لأنهما
من عادة المخنثين ، ومزمار
عراقي، بكسر الميم، وهو
ما يضرب به مع الأوتار،
و يحرم استماعها أي الآلة
المذكورة لأنه يطرب " ().
وما ذكره حجة الإسلام أبو حامد
الغزالي في نقله عن المذهب
حيث قال : " المعازف
والأوتار، حرام؛ لأنها
تشوق إلى الشرب، وهو شعار
الشرب، فحرم التشبه بهم،
وأما الدف، إن لم يكن فيه
جلاجل، فهو حلال، ضُرب
في بيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وإن
كان فيه جلاجل فوجهان،
وفي اليراع وجهان، والأصح
أنه لا يحرم، والمزمار
العراقي حرام؛ لأنه عادة
أهل الشرب، والطبول كلها
مباح، إلا الكوبة "().
وكذلك نستخلص
مما ذكر من مذهب الشافعية
في آلات اللهو والمعازف
: أن الشافعية يحرمون أغلب
آلات اللهو والمعازف، وكذلك كالأحناف
والمالكية،ولم يجوزوا
إلا الدف والطبول.
الموسيقى
في مذهب الحنابلة :
والحنابلة
كانت قريبة من مذهب الشافعية،
فذهبوا تقريبا إلى ما
ذهب إليه الشافعية، إلا
أنهم قسموا الآلات إلى
ثلاثة أقسام : محرمة، ومباحة،
ومكروه ويذكر هذا التقسيم
ابن قدامة إمام الحنابلة
حيث يقول : " فصل في الملاهي
: وهي
على ثلاثة أضرب : محرم،
وهو ضرب الأوتار والنايات
والمزامير كلها، والعود
والطنبور والمعزفة والرباب
ونحوها، فمن أدام استماعها
ردت شهادته ". ثم استأنف
الإمام ابن قدامة يدلل
بالأحاديث على ما ذكر
حتى قال : " وضرب مباح، وهو
الدف، فإن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : " أعلنوا
النكاح واضربوا عليه
بالدف "() ، وذكر أصحابنا
وأصحاب الشافعي أنه مكروه
إلا في النكاح؛ لأنه يروى
عن عمر : أنه كان إذا الدف
بعث فنظر فإن كان في وليمة
سكت وإن كان في غيرها عمد
بالدرة " ، ولنا ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم:
أن امرأة جاءته فقالت
: إني نذرت إن رجعت من سفرك
سالما أن أضرب على رأسك
بالدف. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : " أوفي بنذرك
"(). رواه أبو داود، ولو
كان مكروها لم يأمرها
به،وإن كان منذورا ، وروت
الربيع بنت معوذ قالت
: دخل علي رسول الله صلى
الله عليه وسلم صبيحة
بني بي، فجعلت جويريات
يضربن بدف لهن، ويندبن
من قتل من آبائي يوم بدر،
إلى أن قالت إحداهن : وفينا
نبي يعلم ما في غد ؟ فقال : "
دعي
هذا وقولي الذي كنت تقولين
"(). متفق عليه، وأما
الضرب به للرجال فمكروه
على كل حال؛ لأنه إنما
كان يضرب به النساء والمخنثون
المتشبهون بهن، ففي ضرب
الرجال به تشبه بالنساء،
وقد لعن النبي صلى الله
عليه وسلم المتشبهين
من الرجال بالنساء.
فأما
الضرب بالقضيب فمكروه،
إذا انضم إليه محرم أو
مكروه، كالتصفيق والغناء
والرقص، وإن خلا عن ذلك
كله لم يكره؛ لأنه ليس
بآلة ولا يطرب ولا يسمع
منفردا بخلاف الملاهي
" ().
وقد نقل
ابن مفلح مذهب الحنابلة
وأقوال الإمام فقال : " ويحرم
كل ملهاة سواه كمزمار
وطنبور ورباب وجنك، قال
في "المستوعب" و"الترغيب" : سواء
استعملت لحزن أو سرور،
وسأله ابن الحكم عن النفخ
في القصبة كالمزمار قال
: أكرهه، وفي القضيب وجهان،
وفي "المغني" : لا يكره إلا مع
تصفيق أو غناء أو رقص ونحوه،
وكره أحمد الطبل لغير
حرب، واستحبه ابن عقيل
فيه لتنهيض طباع الأولياء
وكشف صدور الأعداء، وليس
عبثا، وقد أرسل الله الرياح
والرعود قبل الغيث والنفخ
في الصور للبعث، وضرب
الدف في النكاح، والحج
العج والثج، واستحب أحمد
الصوت في عرس وكذا الدف،
قال الشيخ : لنساء، وظاهر
نصوصه، وكلام الأصحاب
التسوية "().
والحاصل
أن مذهب الحنابلة، تماما
كمذهب الشافعية تقريبا،
إلا أنهم ذهبوا إلى إباحة
الدف مطلقا، والشافعية
كرهوا ذلك.
ذكر من
أباح المعازف وآلات اللهو
:
وممن أباح الآلات
والمعازف الإمام الغزالي
حيث قال : " اللهو معين على الجد
ولا يصبر على الجد المحض،
والحق المر، إلا نفوس
الأنبياء عليهم السلام،
فاللهو دواء القلب من
داء الإعياء، فينبغي
أن يكون مباحًا، ولكن
لا ينبغي أن يستكثر منه،
كما لا يستكثر من الدواء.
فإذًا اللهو علي هذه النية
يصير قربة، هذا في حق من
لا يحرك السماع من قلبه
صفة محمودة يطلب تحريكها،
بل ليس له إلا اللذة والاستراحة
المحضة، فينبغي أن يستحب
له ذلك، ليتوصل به إلى المقصود
الذي ذكرناه. نعم هذا يدل
على نقصان عن ذروة الكمال،
فإن الكامل هو الذي لا
يحتاج أن يروح نفسه بغير
الحق، ولكن حسنات الأبرار
سيئات المقربين، ومن
أحاط بعلم علاج القلوب،
ووجوه التلطف بها، وسياقتها
إلى الحق، علم قطعًا أن ترويحها
بأمثال هذه الأمور دواء
نافع لا غنى عنه "().
وعقد
الغزالى في كتاب " إحياء علوم
الدين " الكتاب الثامن في السماع
وفى خصوص آلات الموسيقى
قال : إن الآلة إذا كانت من
شعار أهل الشرب أو الخنين
وهى المزامير والأوتار
وطبل الكوبة فهذه ثلاثة
أنواع ممنوعة، وما عدا
ذلك يبقى على أصل الإباحة
كالدف وإن كان فيه الجلاجل
وكالطبل والشاهين والضرب
بالقضيب وسائر الآلات.
ونقل
القرطبى فى "الجامع لأحكام
القرآن" قول القشيرى ضرب
بين يدي النبي صلى الله
عليه وسلم يوم دخل المدينة
فهم أبو بكر بالزجر فقال
رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "دعهن يا أبا بكر
حتى تعلم اليهود أن ديننا
فسيح". فكن يضربن ويقلن :
نحن
بنات النجار
حبذا
محمد من جار
ثم
قال القرطبى: وقد قيل إن
الطبل في النكاح كالدف
وكذلك الآلات المشهرة
للنكاح يجوز استعمالها
فيه بما يحسن من الكلام
ولم يكن رفثا.
ونقل
الشوكانى في "نيل الأوطار" في باب
ما جاء شفى آلة اللهو أقوال
المحرمين، والمبيحين وأشار
إلى أدلة كل من الفريقين،
ثم عقب على حديث "كل لهو
يلهو به المؤمن فهو باطل
إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل
أهله، وتأديبه فرسه، ورميه
عن قوسه" بقول الغزالى:
قلنا : قوله صلى الله عليه وسلم: "فهو باطل" لا يدل
على التحريم، بل يدل على
عدم الفائدة، ثم قال الشوكانى
: وهو
جواب صحيح لأن ما لا فائدة
فيه من قسم المباح، وساق
أدلة أخرى في هذا الصدد
من بينها حديث " من نذرت أن
تضرب بالدف بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم
إن رده الله سالما من إحدى
الغزوات "، وقد أذن لها عليه
صلوات الله وسلامه بالوفاء
بالنذر والضرب بالدف،
فالإذن منه يدل على أن
ما فعلته ليس بمعصية في
مثل ذلك الموطن، وأشار
الشوكانى إلى رسالة له
عنوانها "إبطال دعوى الإجماع
على تحريم مطلق السماع".
وفى
"المحلى" لابن
حزم: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال:"إنما الأعمال
بالنيات ولكل امرئ ما نوى"، فمن نوى
استماع الغناء عونا على
معصية الله تعالى فهو
فاسق، وكذلك كل شىء غير
الغناء، ومن نوى به ترويح
نفسه ليقوى بذلك على طاعة
الله عز وجل وينشط نفسه
بذلك على البر، فهو مطيع محسن
وفعله هذا من الحق، ومن
لم ينو طاعة ولا معصية
فهو لغو معفو عنه، كخروج
الإنسان إلى بستانه متنزها
وقعوده
على باب داره متفرجا "().
ولذلك فالذي
نراه ـ والله
أعلم ـ هو جواز
الموسيقى اتباعا لأقوال
كل من الإمام أبي حامد
الغزالي ، وكذلك الإمام
ابن حزم، وابن السمعاني
، وآخرين ممن سلف، وكذلك
موافقة لعلمائنا المعاصرين،
أمثال الشيخ جاد الحق،
والشيخ يوسف القرضاوي،
غير أن هناك آلات كثيرة
لم يتكلم في الفقهاء قد
استحدثت بعد زمنهم.
ونخلص من
هذا الفصل بأكمله إلى
أن الغناء بآلة - أي مع الموسيقي-
وبغير آلة : مسألة ثار فيها
الجدل والكلام بين علماء
الإسلام منذ العصور الأولي،
فاتفقوا في مواضع واختلفوا
في أخري.
اتفقوا على تحريم كل
غناء يشتمل على فحش أو فسق
أو تحريض على معصية، إذ
الغناء ليس إلا كلامًا،
فحسنه حسن، وقبيحه قبيح،
وكل قول يشتمل على حرام فهو
حرام، فما بالك إذا اجتمع
له الوزن والنغم والتأثير
؟
واتفقوا
على إباحة ما خلا من ذلك من
الغناء الفطري الخالي
من الآلات والإثارة،
وذلك في مواطن السرور
المشروعة، كالعرس وقدوم
الغائب، وأيام الأعياد
ونحوها، بشرط ألا يكون
المغني امرأة في حضرة
أجانب منها.
ولهذا
نرى والله أعلم جواز الغناء،
سواء كان مصحوبا بالموسيقى
، أم لا ، ولكن استدامته
والإكثار يخرجه من حد
الإباحة ، إلى حد الكراهة
، وربما إلى حد الحرمة.
وبهذا
نكون قد انتهينا من مقصود
بحثنا في الفنون السمعية،
ولا أزعم أني أصبت الحق،
أو أنهيت القول على من
تكلم بعدي، ولكني أزعم
أني استفرغت الوسع والله
ولي التوفيق.
() لسان العرب،
ج 9، صـ 244.
() سورة الإسراء،
الآية : 64.
() تفسير الطبري،
ج 15، صـ 117، طـ دار الفكر،
ونقل قول مجاهد أيضا القرطبي
في تفسيره، ج14، صفحة 52، طـ
دار الشعب.
() أخرجه ابن
حبان في صحيحه، ج 13 صـ 185،
طـ مؤسسة الرسالة.
() أخرجه البخاري
في صحيحه، ج 4، صـ 1469، طـ دار ابن كثير.
() رواه الترمذي
في صننه، ج 5 ، صـ 620، طـ دار
إحياء التراث العربي
بيروت، وابن حبان في صحيحه،
ج10، صـ 231 ، طـ مؤسسة الرسالة.
() ذكره أبو بكر
الهيثمي في مجمع الزوائد
، ج 8، صـ 10 ، طـ دار الريان
للتراث، وقال بعد أن ذكره
: " قلت
: روى ابن ماجه طرفا من أوله
رواه الطبراني وفيه عبدالله
بن أبي الزناد، وفيه ضعف، وبقية رجال
إحدى الطريقين رجال الصحيح .
() رواه أحمد
في مسنده، ج 5، صـ 268، طـ مؤسسة
قرطبة وهو جزء من الحديث
رقم 22361.
() البحر الرائق،
ج 7، صـ 88، طـ دار المعرفة.
() كفاية الطالب
لأبي الحسن المالكي،
ج 2 ، صـ 565 ، طـ دار الفكر.
() حاشية الدسوقي
، ج 2 ، صـ 337 ، 338 ، طـ دار الفكر.
() مواهب الجليل
لعبد الرحمن المغربي
المالكي ج 4 صـ 7 طـ دار الفكر.
() سورة لقمان،
الآية : 6.
() المِزْرُ بالكسر ضرب من الأشربة
قال ابن عمر رضي الله عنهما
هو من الذُّرة. (مختار الصحاح 1/260)
() البَرْبَطُ : العود، أَعجمي لـيس
من مَلاهي العرب فأَعربته
حين سمعت به. التهذيب: البربط
من ملاهي العجم شبه بصدر
البَطّ، والصَّدرُ بالفارسية
بَرْ فقـيل بَرْبَطٌ.
وفـي حديث علـي بن الـحسين:
لا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ
فـيها البَرْبَطُ؛ قال: البَرْبَطُ مَلْهاة تشبه
العود، فارسي معرَّب. (لسان
العرب 7/258)
() المهذب لأبي
إسحاق الشيرازي ج 2، صـ
327 ، طـ دار الفكر.
() إعانة الطالبين
للسيد البكري الدمياطي
، ج 2، صـ 249، طـ دار الفكر
.
() مغني المحتاج
ج4 ، صـ 429.
() الوسيط لأبي
حامد الغزالي ، ج 7 ، صـ 350
، طـ دار السلام.
() أخرجه عبد الله
بن مسلم في " تأويل مختلف
الأحاديث "، ج1 ، صـ 295 ، طـ
دار الجيل بلفظ : " أعلنوا
النكاح واضربوا عليه
بالغربال " .
() المغني لابن
قدامة ، ج 10 ، صـ 173، 174، طـ دار
الفكر.
() الفروع لابن
مفلح، ج 5، صـ 236، 237، طـ دار
الكتب العلمية.
() الفروع لابن
مفلح، ج 5، صـ 236، 237، طـ دار
الكتب العلمية.
() فتاوى الشيخ
جاد الحق نقلا عن موقع
إسلام أون لاين باب الفتاوى
في فتوى حكم الكوبة والمعازف.